الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أما ما ذكره الشيخ علي محفوظ في الفصل التاسع من كنابه الإبداع في مضار الابتداع من أن من يسميه تعالى بغير اسم ورد في القرآن أو السنّة فقد كفر، ففيه ما فيه من المبالغة وحمل على السادة الصوفية وتنديد بهم، فهو قول مغالى فيه لا محل له من القبول، لأن التكفير أمر عظيم لا يكون إلا بإنكار أحد أركان الإسلام، وقال العلماء المنصفون لو وجد تسع وتسعون قولا بالتكفير وواحد بعدمه يفتى بالواحد، إذ لا يخرج الرجل من الإسلام إلا بإنكار ما دخل به فيه، قال تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ} جماعة إلى الجنة وهذا بمقابل {وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ} في الآية السابقة ونظيرتها الآية 159 المارة، وهذه الطائفة المباركة هم الذين دأبهم أنهم {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} ويرشدون الناس إلى طريقه {وَبِهِ يَعْدِلُونَ 180} بأحكامهم على أنفسهم وعلى غيرهم لا يفرقون في الحق بين قريب وغريب وعدو وصديق وحقير وشريف.قال ابن عباس يريد بهذه الآية أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم.روى البخاري ومسلم عن معاوية قال وهو يخطب: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر اللّه لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر اللّه وهم على ذلك».وفي الآية هذه والحديث هذا إشارة إلى أنه لا يخلو زمان من قائم بالحق يعمل به ويهدي إليه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} من أي أمة كانت لأن الصيغة للعموم فتتناول الكل إلا ما دل الدليل على استثنائه فهؤلاء {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} شيئا فشيئا إلى الهلاك {مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ 181} ما يراد بهم ولا يشعرون بمصيرهم ولا يحسون بمنقلبهم حتى يستأصلوا بالعذاب على غرّة، وذلك أن اللّه تعالى يفتح عليهم الدنيا ويزيدهم من نعيمها ما عليه يغبطون، وإذا أقدموا على ذنب أو عملوا جرما فتح عليهم أبواب الرزق ليزدادوا تماديا في الشرّ ويحسبون أنه أثرة من اللّه آثرهم بها على غيرهم وينسيهم سيئاتهم حتى لا يرجعوا عنها ويستغفروا منها ويظنوا أن اللّه لا يحاسبهم عليها وهم لا يعلمون أن ذلك كله عربون لأخذهم بغتة وإهلاكهم على حين غفلة، إذ يفاجئهم بأمر لا محيص لهم منه، ويدل على هذا قوله: {وَأُمْلِي لَهُمْ} أمهلهم بإطالة أعمارهم ولا أعاجلهم بالعقوبة حتى يظنوا أنهم أهملوا، ولم يذكروا {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ 182} قوي شديد لا يجارى ولا يبارى، ومن جملة هذا الكيد أن أغلق عليهم باب التوبة، فلا أجعلهم يتصورونها.وأراد بالكيد هنا الأخذ وإنما سمي كيدا تشبيها به من حيث أنه في الظاهر إحسان وفي الباطن خذلان ثم شرع يندد في كفار قريش بقوله عز قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} هؤلاء الذين يصمونك بالجنة أيها الكامل مع أني أقول لهم {ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} فكيف ينسبونك إلى الجنون وأنت مصاحب لهم ليل نهار ويعلمون يقينا أنك أكمل البشر وأقول لهم {إِنْ} ما {هُوَ} صاحبكم {إِلَّا نَذِيرٌ} لكم يخوفكم من أن يأخذكم ربكم بعذاب شديد لا تطيقونه إن أصررتم على كفركم ولم تؤمنوا به وهو {مُبِينٌ 183} لكم طريق الخير وموضح لكم سبل الصواب ومرشدكم لكل ما به نفعكم واجتناب ما يصركم، نزلت هذه الآية حينما وقف صلّى اللّه عليه وسلم على الصفا ودعى قريشا فخذا فخذا وحذرهم بأس اللّه تعالى ووقائعه إن لم يؤمنوا به، وأنه ينزل بهم من العذاب ما أخذ به من قبلهم، فقال بعضهم لبعض إن هذا لمجنون دعوه يصوت حتى الصباح فأكذبهم اللّه فيها، طفق يحثهم على دلائل وحدانيته مما يؤدي لإيمانهم إن كانوا يعقلون، فقال: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} وعظمتهما وما فيهما من المنافع، والملكوت هو الملك زيدت فيه الواو والتاء للمبالغة مثل جبروت ورحموت مبالغة في التجبر والرّحمة، ويتأملوا {فى ما خَلَقَ اللَّهُ} فيهما وبينهما وما فوقهما وتحتهما {مِنْ شَيْءٍ} ذكر الشيء ليعم فيشمل جميع الأشياء العلوية والسفلية، إذ في كل منها عبر توجب التفكر والتدبر والنظر لدلالتها على آثار قدرته في مكوناته وعجائب صنعه في مخلوقاته:
أي لما ذا لم يتذكر الناس فيما برأه ربهم في هذين الهيكلين العظيمين وما خلقه لهم فيهم {وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} فيموتوا على كفرهم فيخسروا آخرتهم كما خسروا دنياهم، فيا سيد الرسل إذا لم يؤمنوا بك وأنت الذي لا نبيّ ولا كتاب بعدك {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ 184} لأنك خاتم الأنبياء وكتابك خاتم الكتب، أي أنهم لا يؤمنون البتة لأن اعراضهم هذا لسابق ضلالهم وأنهم في علم اللّه خبثاء لا يتوقع منهم الهدى لأن {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ} أبدا إذ طبع اللّه على قلوبهم فمالوا عن الحق إلى الضلال وقد أعماهم عن سلوكه لأنه يريدهم إلى ما قدره إليهم في أزله {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ 185} لا يدركون شيئا في بصيرتهم كما لا يرونه بأبصارهم فهم دائما متحيرون لا يهتدون إلى صواب:
والأول أولى، راجع الآية 95 المارة في بحث الإحفاء وعلى كل {إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ} كرر الجواب جل شأنه لتكرار السؤال تأكيدا للحكم وتقديرا له واشعارا بعلّته على الطريقة البرهانية بإيراد اسم الذات المنبئ عن استتباعها بصفات الكمال التي من جملتها العلم وتمهيدا للتعريض بجهلهم، فالسؤال الأول عن بيان وقت قيام الساعة، والثاني عن بيان أحوالها الشافة، ولهذا قال جل شأنه {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 186} معنى اختصاص علم اللّه بها، فبعضهم ينكرها رأسا ولا يسأل عنها إلا تلاعبا، وبعضهم يعلم أنها واقعة، ولهذا قال أكثرهم:ويزعم أن محمدا واقف على وقت وقوعها فيسأل جهلا، وبعضهم يزعم أن العلم بها من مقتضيات الرسالة فيتخذ السؤال ذريعة إلى القدح فيها بأن يقول كيف يدعي الرسالة ويخوفنا القيامة ولا يعرف متى تقوم، وبعضهم واقف على جلية الحال ويسأل امتحانا فهو ملحق بالجاهلين لعدم علمه بعمله وعمله بعلمه.هذا، ولما سأل أهل مكة محمدا صلّى اللّه عليه وسلم ألا يخبرك ربك بالأسعار لنتيقن ونتحقق الربح، وبالجدب والخصب لنأمن على أنفسنا وحيواناتنا من الجوع والعطش، أنزل الله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا} لأني بشر مثلكم فلا أقدر على دفع الضر وجلب الخير {إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ} لي من ذلك أن أملكه بتمليكه إياي، وهذا غاية في إظهار العبودية ونهاية في التبري عن خصائص الإلهية ومبالغة في إظهار العجز، وبما أن ذلك من العلم بالغيب أتبع هذا التبرّي بقوله: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} كما تظنون {لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ} الذي يمكن التقصي عنه بالتوقي من موجباته ولم أكن مغلوبا لكم في بعض الأحوال، وهذا قبل أن يطلعه اللّه على بعض مغيباته ولما أطلعه أخبره، قال تعالى: {فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ} الآيتان 26 و27 من سورة الجن الآتية، ثم أكد نفي ذلك بقوله: {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ} للكافرين أمثالكم من أن يلحقهم غضب اللّه إن لم يرجعوا عن كفرهم {وَبَشِيرٌ} بالثواب العظيم من الله: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 187} بي ويصدقون رسالتي، ثم ذكرهم بأصل خلقهم بقوله عز قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ} هي نفس آدم عليه السلام {وَجَعَلَ مِنْها} من نفسها {زوجها} حواء لأنها خلقت من نفس آدم، لذلك قال منها أي من جنسها، وقد جاء في الخبر أن اللّه تعالى خلق حواء من ضلع آدم اليسرى، ونظير هذه الآية من حيث المعنى الآية الأولى من سورة النساء في ج 3 والآية 97 من سورة الأنعام في ج 2، أما كيفية خلقها فعلى ما هو عند اللّه تعالى مما هو مجهول عندنا، واللّه لا يعجزه شيء وقال تعالى في الآية 72 من سورة النحل في ج 2: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا} وعليه ينبغي أن تكون من هنا ابتدائية، ويكون المعنى من جنسكم أيضا، ويحتمل أن تكون تبعيضية، فيصير المعنى من جسدكم، فالمعنى الأول ينطبق على آدم وسائر البشر، وعلى الأخير لا ينطبق إلا على آدم، وسنأتي على تفصيل كل من هذه الآيات في محله إن شاء الله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْها} يأوي ويأنس بها واللام للعلة الغائبة، أي يطمئن إليها.
|